إن السلطة القضائية تكتسي أهمية خاصة باعتبارها أهم ضمانة لاحترام حقوق الإنسان وحماية مصالح الأفراد والجماعات، وباعتبارها الآلية المعهود إليها بضمان سيادة القانون، ومساواة الجميع أمام مقتضياته؛ ويترتب عن الثقة في استقلال ونزاهة القضاء دوران عجلة الاقتصاد بشكل فعال ومنتج، وتنشيط الاستثمارات، وتحقيق التنمية؛ وقد أكد ذلك إعلان القاهرة المنبثق عن المؤتمر الثاني للعدالة العربية، المنعقد في فبراير2003، والذي جاء فيه:«أن النظام القضائي المستقل يشكل الدعامة الرئيسية لدعم الحريات المدنية وحقوق الإنسان، وعمليات التطوير الشاملة، والإصلاحات في أنظمة التجارة والاستثمار، والتعاون الاقتصادي الإقليمي والدولي، وبناء المؤسسات الديمقراطية»، وهناك مقولة معروفة وهي أنه: إذا كان العدل أساس الحكم، فإن استقلال القضاء هو أساس العدل. والاستقلال الكامل للسلطة القضائية يعني أنه لا يجوز باسم أي سلطة سياسية أو إدارية، أو أي نفوذ مادي أو معنوي، التدخل في أي عمل من أعمال القضاء، أو التأثير عليه بأي شكل من الأشكال، ولا يجوز لأي شخص أو مؤسسة من السلطة التنفيذية، ولو كان وزير العدل أو رئيس الدولة، أن يتدخل لدى القضاء بخصوص أي قضية معروضة عليه للبت فيهـا، أو ممارسة ضغط مباشر أو غير مباشر للتأثير على المحاكم فيما تصدره من أحكام قضائية، وألا يخضع القضاة وهم يزاولون مهامهم إلا لضمائرهم، ولا سلطان عليهم لغير القانون.أبرز ملامح أي نظامٍ ديمقراطي هو سيادة القانون، وإقامة العدل بين كل المواطنين، على قدم المساواة، وهي أساس مشروعية الحكم وسند بقاء الدولة نفسها، والحقيقة أن البشرية لم تعرف القانون العادل الذي يقيم المساواة بين الناس إلا عندما نزلت الشرائع السماوية.. يقول الله تعالى: ﴿لَقَدْ أَرْسَلْنَا رُسُلَنَا بِالْبَيِّنَاتِ وَأَنْزَلْنَا مَعَهُمْ الْكِتَابَ وَالْمِيزَانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ ﴾ (الحديد: من الآية 25)، والمساواة في الحقوق والواجبات مَعْلَم مهم من معالم الدولة الديمقراطية، والإسلام يكفل هذه المساواة بين كل مَن ينتمي لمجتمع المسلمين. أما المساواة أمام القانون والخضوع لأحكام القضاء من جانب كل المواطنين، حكامًا ومحكومين، مؤمنين وكافرين، طائعين وعصاة، فهو ما يفخر به المسلمون في تاريخهم وعصورهم الزاهرة؛ فها هو الإسلام ونبيه صلى الله عليه وسلم يقرر: "لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها". ويغضب أشد الغضب عندما يشفع لديه حبيبه وابن حبيبه أسامة بن زيد في امرأة شريفة من بني مخزوم سرقت لكي يعفيها من قطع يدها كعقوبةٍ مقررة.. فيقول صلى الله عليه وسلم: "إنما أهلك الذين قبلكم أنهم كانوا إذا سرق فيهم الشريف تركوه، وإذا سرق فيهم الضعيف أقاموا عليه الحد، ويم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها" (رواه البخاري). ويشهد تاريخ الإسلام وقائع عديدة تطبيقية لهذا المبدأ المهم والخطير، منها ما سطَّره التاريخ بأحرفٍ من نور كيف قضى القاضي (شريح) لليهودي ضد أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في درعٍ مسروقة، كما تدل الوقائع على غضب علي بن أبي طالب نفسه في مجلس القضاء عندما خاطبه القاضي بلقب أبي الحسن بينما نادى غريمه باسمه المجرد. والأمم تبقى وتزدهر بدوام العدل وسيادة القانون، والأمم تندثر وتُمحى وتنهزم عندما يسود الظلم والفساد؛ لأن الله تعالى لا يحب الفساد ولا يحب المفسدين. وعندما جاء الإسلام جاء ليقرر قاعدةً أصوليةً أصَّلتها كل الشرائع السماوية التي نزلت من عند الله تعالى؛ هي "حاكمية الشريعة الإلهية"، وتستمد الشريعة السماوية الإسلامية قدسيتها في أن مبادئها العامة وأصولها المستقرة وبعض أحكامها التفصيلية هي من عند الله تعالى، وليس للبشر فيها إلا الاجتهاد في الفهم والاجتهاد في التطبيق. وهذا المبدأ يجعل الجميع خاضعًا لها خضوعًا تامًّا، فلا ينفك أحد- مهما كان- عن تطبيق الشريعة الإسلامية، لا حاكمًا ولا محكومًا، لا مشرِّعًا وضعيًّا أي عضوًا في مجلس الشعب أو قاضيًا أو فقيهًا شرعيًّا أو حقوقيًّا، ولا مواطنًا عاديًّا، ولا مواطنًا يتمتع بأي درجة من الامتياز، فلا حصانات أمام الشريعة الإسلامية الإلهية. ويكفي إقرار النبي صلى الله عليه وسلم نفسه لهذه القاعدة عندما طالبه أحد الصحابة بالقصاص منه؛ لأنه آلمه عندما ضربه في بطنه فآذاه، فما كان منه صلى الله عليه وسلم إلا أن كشف عن بطنه الشريف ليقتص منه الصحابي الجليل في ساحة الميدان قبل النزول للمعركة، فما كان من الصحابي إلا أن قبّل بطن النبي صلى الله عليه وسلم قائلاً: "إنني أقبل على الموت وأردت أن يكون آخر عهدي بالدنيا أن أمسَّ جسد النبي الشريف صلى الله عليه وسلم". ولكنه طبّق القاعدة العظيمة في أن القصاص حقٌّ مع النبي صلى الله عليه وسلم وهو ما قرره النبي صلوات الله وسلامه عليه نفسه في آخر حياته عندما خطب في الناس يدعوهم لأخذ حقوقهم من قبل أن يلقى ربه في حديث طويل يخاطبهم فيه: "من كنت أخذت منه مالاً فهذا مالي يأخذ منه ما شاء، ومن كنت اقتدت منه فهذا حقه فليقتد منه.." إلخ الحديث الطويل المشهور. إن إقامة دولة الحق والعدل وسيادة القانون حيث يخضع كل المواطنين لأحكام الدستور والقانون هي مبدأ إسلامي أصيل، ولم يحدث الانحراف في تاريخنا إلا حديثًا في عهود الظلم والاستبداد، عندما تخلَّت الأمة عن تطبيق الشريعة الإسلامية كمبدأ أصيل، واستبدلت بها قوانين أخرى ليست لها نفس القدسية والمكانة في نفوس الشعوب، وبدأ الهوى يتدخل في صياغة الدساتير التي تتغير حسب مقاس الحكام وفي سَنِّ القوانين التي تصدر بهوى الحاكم أو وفقًا لمصالح النخب المسيطرة وليس لصالح المجموع العام، وفي تشكيل الهيئة التشريعية المنتخبة لصياغة القانون، فإذا بها لا تمثل إرادة الشعب ولا تدافع عن مصالحه، بل وصلنا للتحالف المشبوه الخطير بين السلطة والثروة؛ ما أدى إلى إهدار مبدأ المشروعية نفسه، وانهارت دولة الحق والعدل، ولم يعُد هناك سيادة للقانون في البلاد الإسلامية، بل سادت مقولات: "أنا القانون" يطلقها كل حاكم مستبدّ ظالم، والناس في صمت؛ خوفًا ورهبةً، ومَن يعارض فمصيره القتل أو النفي أو السجن!. الديمقراطية الحقيقية تعني إعلاء شأن القانون العام فوق رأس الجميع، بمَن فيهم من الحكام وأصحاب الثروة، وإعلاء مبدأ سيادة القانون يعني بالتالي تقرير أهم حقوق المواطنة، وهو المساواة أمام القانون، والمساواة في الحقوق والواجبات، فلا فضل لأحد على أحد، ولا ميزة لمواطن في الدولة على مواطن آخر، لا بسبب الدين ولا الجنس ولا اللون ولا الثروة ولا المكانة، فالجميع أمام القانون سواء. وسلوك عدم المساواة في تطبيق القانون لو تم تعميمه في التعامل مع أعمدة النظام الفاسد بحجة كبر السن أو المرض أو تقديم خدمة وطنية للوطن أو التنازل عن المال المنهوب من قوت الشعب سيقوم آخرون بتقليدهم في ارتكاب جرائم الفساد مقابل عمل مصالحة لا ندري هل هي منصفة أم لا؟! إن سيادة القانون هي الأساس في تطبيق العدالة بحيث يقف كل الناس أمامه ويخضعون لأحكامه لا فرق بين إنسان وآخر يطبق على الكبير والصغير ، وعلى المسؤول وغير المسؤول 0فهو مجموع القواعد التي تسنها الدولة من أجل تنظيم شؤون البلاد والعباد وتسيير أمورها ، ووضع النظم والضوابط التي تطبق على جميع الأشخاص في علاقاتهم الإجتماعية ، وفي علاقاتهم مع الدولة وهي التي تنظم الأمور المدنية والتجارية ، والجزائية وهي التي ترسي أصول الحكم 0 والقانون يصدر عن السلطة التشريعية المختصة 0
إذن يتجلى القانون بمجموعة القواعد القانونية التي تفرض على الناس بغية تحقيق النظام في المجتمع وعلاقات الأفراد فيه ، وبغية تحديد سبل سيرهم وسلوكهم 0ويسهر على تطبيق القانون القضاة الذين يحملون رسالة مهمة في إقامة العدل بين الناس فيما يتعلق بحرياتهم وأموالهم ، وأحوالهم الشخصية 0ورسالة القضاء هي رسالة مفتوحة ، وليست مغلقة قد كتب فيها النزاهة ، والحياد ، والعدل وقد قيل : إمام عادل خير من مطر وابل ، وقيل أيضا عدل ساعة خير من عبادة ستين سنة 0وإن الظلم يجرح عواطف العدالة ويدمي فؤادها فلا بد من حمايتها من العبث والفساد