بركات الضمرانى مشرف
الاوسمة : عدد المساهمات : 1142 السٌّمعَة : 0 تاريخ التسجيل : 22/02/2011
| موضوع: النخب العربية ومطلب الإصلاح الديمقراطي الجمعة مايو 18, 2012 7:45 pm | |
| تتقاسم النخب السياسية العربية الحاكمة مجموعة من الخاصيات المشتركة، لخصها أحد الباحثين في ثلاث خصائص هي: التجربة السياسية المشتركة (الخبرة التاريخية، الخبرة الدينية، الخبرة السياسية) ثم التكوين الفكري المشترك (المعتقد الديني، المعتقد السياسي، التكوين العصري)؛ هذا فضلا عن تشابه طرق تولي الحكم (الوراثة، الانقلاب، الخلافة، الانتخاب). وقد نجحت الأنظمة السياسية في مختلف البلدان العربية إلى حد بعيد في تدجين العديد النخب(المثقفة، الاقتصادية، الدينية، العسكرية، الحزبية، الحكومية..) تارة بالتهديد والوعيد، وتارة أخرى بالإغراء والترغيب، وبخاصة وأن فئة كبيرة من هذه الأنظمة تعتمد في إستراتيجيتها التسلطية على النخبة السياسية إلى جانب نظيرتها العسكرية، وتبين تغليب بعض هذه النخب لمصالحها الخاصة، وتورطها في فساد مالي وإداري وسياسي..؛ مما أسهم بشكل كبير في خلق فجوة بين السلطة السياسية الحاكمة من جهة وما بين أفراد المجتمع من جهة أخرى، وفرض استمرار الأوضاع السياسية على حالها. الأمر أفقد هذه النخب ثقة الجماهير؛ وولد شعورا بالإحباط في أوساط الشعوب العربية، فيما فضلت نخب أخرى الانكفاء على نفسها والانزواء بعيدا.. وبغض النظر عن وجود رغبة حقيقية لدى النخبة السياسية لإجراء تغييرات جدية في الأنساق السياسية العربية أو غيابها، فإن الإصلاح الديمقراطي الحقيقي في المنطقة، لا ينبغي أن يرتبط بمشاريع إصلاحية خارجية، بقدر ما ينبغي أن يرتكز على الإنصات إلى نبض الشارع العربي وتحسين الأحوال الاجتماعية والاقتصادية والسياسية بهذه البلدان، بعيدا عن كل أملاءات خارجية لا تحقق إلا مصالح مروجيها.. ومع ذلك؛ ينبغي استثمار هذه المشاريع بشكل محسوب وذكي للضغط على الأنظمة العربية من خلال حثها على فتح المجال أمام مختلف الفاعلين داخليا، لبلورة تصورات ومشاريع إصلاحية ديمقراطية حقيقية.. ذلك أن الإصلاحات الكفيلة بإخراج الأقطار العربية من إخفاقاتها وتخلفها يظل مشروطا بفتح ورشات إصلاحية تنبع من الداخل، لتعكس الحاجات الحقيقية الملحة لشعوب المنطقة الكفيلة بإخراجها من إكراهاتها الاقتصادية والسياسية والاجتماعية.. هناك حاجةٌ، في نظري، إلى تشكيلاتٍ معارضةٍ وطنيّةٍ تستطيع أن تستوعبَ معاناة جماهير شعب مصر المتصاعدة وطموحاتها المتنامية، وأن تلهبَ خيالَ هذه الجماهير برؤًى فكريّةٍ للتغيير والإصلاح، وتعبّئ طاقاتها في فعلٍ نضاليٍّ سياسيٍّ يتبنّى الأساليب الديمقراطيّة، فعلاً لا تغنّيًا أجوفَ، بما يمْكن أن يحقّق، في النهاية، آمالَها. ومثلُ هذه التشكيلات يبدو غائبًا عن الساحة السياسيّة في مصر الآن. ولا أمل عندي في إصلاح تشكيلات المعارضة القائمة لتتحوّل إلى هذا النموذج المنشود! إنّ مصر في حاجة إلى اختراقٍ عظيمٍ لبوار السياسة في مصر، يتجاوز البنيةَ السياسيّةَ الراهنة، خاصةً التشكيلات المعارضة، إلى آفاقٍ أرحبَ للتغيير والإصلاح. فأيّ شكل يمكن أن يتّخذه ذلك الاختراقُ؟في نظري، هناك أملٌ في أن يتخلّق هذا الاختراقُ من رحم تراكم حركات الاحتجاج الشعبيّ على صورة تشكيلاتٍ جديدةٍ تقارب هذا النمطَ المنشود، ولعلّ أهمّها التشكيلاتُ النقابيّةُ المستقلّة. فلنتخيّلْ للحظة أنّ نقابةً مستقلّةً قامت من تجمّع العاملين بالتربية والتعليم، معلّمين وإداريين. ثم توسّعتْ إلى نقابة العاملين في الضرائب العقاريّة، لتضمّ القطاعَ الماليّ العامَّ والخاصّ. وقامت النقابةُ المستقلة للغزل والنسيج، ثمّ توسّعتْ إلى جميع العاملين في الصناعة. ولحق بكلّ هذه النقابات تشكيلٌ نقابيٌّ مستقلّ للفلاحين وعمّالِ الزراعة. إنّ مثلَ هذه التشكيلات مجتمعةً قد يشكّل في تقديري نواةَ التنظيم السياسيّ الذي يمْكن أن يحمل فكرة التغيير والإصلاح وينظُمَ حركتَها في صنع التاريخ. غير أنّ أنصارَ التشكيلات السياسيّة المعارضة يزعمون أنّ مثل هذه التشكيلات النقابيّة مجرّدُ حركاتٍ "اجتماعيّةٍ" تفتقر إلى "الأفق السياسيّ." وهذا عندي قولٌ مردودٌ عليه. فما لا يعلمه هؤلاء هو أنّ هذه الهموم الاجتماعيّة هي صلب السياسة، خاصةً في بلدٍ يعاني أهلُه الإفقارَ الشرسَ فوق خنق الحرية. وما لا يعلمونه أيضًا هو أنّ إهمالَ التنظيمات السياسيّة المعارضة الحاليّة لهذه الهموم السياسيّة الأصيلة، واستغراقَها في لعبة الانتخابات المدارة (إلى درجة الضلوع في تزوير إرادة الناس)، هما من أهمّ أسباب عزوف الناس عنها، ومن ثم خيبة هذه التنظيمات التي أمست، في نظري، تنتمي موضوعيّاً إلى نظام الحكم التسلّطيّ القائم المغتصب للسلطة والمعادي لجماهير الناس. وعندي أنه لا يتعيّن الفصلُ تعسّفيّاً بين ما يسمّيه البعضُ "حركاتٍ اجتماعيّة" والحراك السياسيّ. فما يسمّى حركاتٍِ اجتماعيّة (أو مطلبيّة) قويّة هو في عمق السياسة بامتياز. وما يبدأ اجتماعيّاً أو مطلبيّاً يمكن أن ينتهي سياسيّاً بامتياز. والمثال الأهمّ في العالم على هذا التحول هو الحراكُ المجتمعيُّ في أمريكا اللاتينيّة التي شهدتْ سيْلاً من حركات الاحتجاج الشعبيّ التي سُمّيتْ (أو اعتُبرت) "اجتماعيّةً" منذ حوالى عقدين من الزمان في ظروفٍ تُقارب أحوالَ مصر الحاليّة. ولكنّ تراكمَ الاحتجاج الشعبيّ "الاجتماعيّ" أنتج تحوّلاً كيفيّاً طَبَعَ مجملََ السياسة في القارة وأعاد الاعتبارَ إلى قيم الحريّة والعدل والمساواة. وعندي أنّ التعالي الذي يبديه بعضُ المثقفين والسياسيين إزاء حركات الاحتجاج الشعبيّ، باعتبارها "حركاتٍ اجتماعيّةً تفتقر إلى أفقٍ سياسيّ، " ليس إلاّ قصورًا في الفهم والإدراك، وتمسّكًا بتصوّراتٍ ونماذجَ باليةٍ للعمل السياسيّ، ثبت فشلُها. ويَصْدر هذا التعالي أيضًا عن مفهومٍ قاصرٍ للسياسة في بلدٍ، كمصرَ، يَحْصر السياسةَ في النظام السياسيّ والعمليّة السياسيّة، ويَعتبر قضايا الناس في العملِ والعيشِ الكريم واحترامِ الكرامة الإنسانيّة مسائلَ اجتماعيّةً واقتصاديّةً "لا ترقى" إلى مرتبة السياسة، ويقسِّم العملَ العامَّ تقسيمًا ساذجًا إلى سياسةٍ واقتصادٍ واجتماعٍ وكأنّ هذه أقسامٌ أكاديميّةٌ منفصلةٌ في منظورٍ قاصرٍ لجامعةٍ متخلّفة، على الرغم من أننا نعيش عالمَ تداخل المناظير المعرفيّة. وهذا، في نظري، ضربٌ من الخطل، وبخاصةٍ في بلد يعاني أهلُّها الأمرّيْن من تزاوج الفقر والقهر. ولكنّ الفارق الحاسم، في تقديري، بين حركات الاحتجاج الشعبيّ ومكوّنات البنية السياسيّة القائمة هو الحضورُ الفاعلُ للجماهير في الأولى، وغيابُها الفاجعُ عن الثانية. ولا شكّ في أنّ الجماهير هي محرِّكُ الفعل السياسيّ المؤثّر، بالمعنى الواسع. وقد أشبّهُ البنيةَ السياسيّةَ الراهنةَ بسيّارةٍ بلا محرِّك، وأشبّهُ حركاتِ الاحتجاج الشعبيّ بسيارةٍ تتمتّع بمحرّكٍ قويّ وإن احتاجت إلى بعض تحسين. ولا ريب في أنّ الوضع المثاليّ للفعل السياسيّ المغيِّرِ للواقع هو في التحام النخبة بالجماهير. ولكنْ لا تستحقُّ صفةَ "النخبة" جماعاتٌ تنشأ في غرفٍ مغلقةٍ في العاصمة، أو في حضن الحكم التسلّطيّ، ثم تسعى إلى إنشاء جسور مع الجماهير، التي لا تستجيب، ولها كلُّ الحق في ألاّ تستحيب، ثم لا تخجل هذه "النخبةُ" من اتهام الجماهير بالسلبيّة والخنوع! والحال أنّ النخبة الحقيقيّة التي يمكن أن تحمل قيمةَ تغييرٍ سياسيٍّ حقيقيّ هي نخبةٌ تفرزها عمليّةُ النضال الجمعيّ من وسط الجماهير. وفي هذا تبزّ حركاتُ الاحتجاج الشعبيّ التشكيلاتِ السياسيّةَ الراهنةَ بلا منازع. جديرٌ بالذكر أنّ إقامة تنظيماتٍ نقابيّةٍ مستقلة، خاصةً في ظلّ خنق الحريّة (حريّة التجمع السلميّ وحريّة إنشاء المنظمات في المجتمعين المدنيّ والسياسيّ)، هو فعلٌ سياسيٌّ بامتياز، مضمونُه انتزاعُ حريّة التنظيم في أحد أهمّ مجالات الفعل الجمعيّ المناضل لاستعادة الحقوق. ومعروفٌ أنّ حكم الاستبداد والفساد يحرص أشدّ الحرص على خنق حريّة التنظيم باعتبارها بدايةَ نهايةِ الحكم التسلطيّ. وحيثما تبنّت النقاباتُ المستقلةُ حقوقَ جماعاتٍ مظلومةٍ من هيكل قوةٍ تسلّطيّ، اكتسبَ إنشاءُ تلك النقابات صبغةً تقدميّةً وتحرريّةً واضحة. وفي النهاية فإنّ الأفق السياسيّ لحركات الاحتجاج الشعبيّ ليس محكومًا بأن يكون محدودًا بمطالبَ مصالحيّةٍ ضيّقة. وفي الخبرة البشريّة أنّ إنشاء النقابات المستقلّة قد يشكّل نقطةَ انطلاقٍ أساسيّةً لتشكيلاتٍ سياسيّةٍ أبعدَ مدًى، مثل الأحزاب النابعة من النضال الشعبيّ، ولها ميزةٌ لا تُنكر على تلك التي تنشأ "من فوق." وفي الحالة المصريّة مصداقٌ لهذه الخصال: فحركاتُ الاحتجاج الشعبيّ بين العمّال حفلتْ بإرهاصات النزوع إلى تكوين حزبٍ للعمّال في مصر، وأفرزتْ قياداتٍ صلبةً صهرها النضالُ، وتتميّز برؤيةٍ سياسيّةٍ واسعةٍ وتقدميّة تبزّ (في تقديري) الغالبيّةَ الساحقةَ من المثقفين وقياداتِ العمل السياسيّ الراهن، سلطةً ومعارضة! إلا أنّ ذلك لا يعني أنّ الطريق ممهَّدٌ أمام هذا البديل الخير. هناك طبعًا المقاومة الشرسة التي يبديها نظامُ الحكم التسلطيّ؛ وتجاربُ السنوات القليلة الأخيرة تنضح بنجاحها في احتواء حركات الاحتجاج الشعبيّ، بل وكسرها أحيانًا. ولكنّ المعوِّقَ الأكبرَ يكمن في أوجه القصور والتناقضات الداخليّة لحركات الاحتجاج الشعبيّ المنوطِ بها إنجابُ هذا الاختراق العظيم. انظرْ مثلاً في الطبيعة المحافظة لجموع القضاة التي مكّنت الحكمَ التسلّطيَّ من كسر شوكة حركة استقلال القضاء، وفي قلّة التنسيق بين المعلّمين والإداريين في مجال التربية والتعليم، وفي الانشقاقات الناجمة عن التنافس على القيادة داخل بعض حركات الاحتجاج الشعبيّ.مثاليّات؟خلاصةيتعيّن على أيّ تشكيلٍ سياسيّ، أو شبه سياسيّ، قائمٍ الآن في مصر، أو في سبيل التشكّل، إنْ كان يروم أن يسهم بفعاليّةٍ في تجاوز حالة البوار السياسيّ الراهنة في البلد، أن يتبنّى في الممارسة المخلصة والدؤوبة توجّهين أساسيين:الأول: مفهومٌ واسعٌ للسياسة، هو الأنسبُ في بلدٍ يعاني المواطنون فيه أبشعَ أشكال القهر والإفقار؛ مفهومٌ لا يتعالى على المعاناة اليومية لجماهير الناس، فلا يخرجُها من نطاق "السياسة" ويعتبرها همومًا "محض اجتماعيّة،" ويستبعد من ثمّ العملَ من أجل نيل طموحات الجماهير المشروعة في العيش الكريم.والثاني: أن يتشكّل القوامُ التنظيميّ، وتُنتخب القياداتُ، ديمقراطيّاً، من خلال النضال في صفوف جماهير الناس.فقط في ظل هذين التوجّهين يمْكن أن تستفيقَ التشكيلاتُ السياسيّةُ المعارضةُ الراهنة من غيبوبتها الحاليّة. كما يمْكن أن تشكّل جهودُ إنشاء التنظيمات النقابيّة المستقلّة اختراقًا عظيمًا فعلاً لحالة البوار السياسيّ في مصر.من المهمّ التأكيدُ على أنّ هذا التصور المثاليّ ليس خياليّاً أو تمنّيًا في المطلق. فبعضُ مكوّنات التصوّر قامت فعلا، أو في سبيلها إلى القيام. النقابة المستقلة لموظّفي الضرائب العقاريّة قامت فعلا، وإرهاصاتُ النقابة المستقلّة لعمّال الغزل والنسيج متوهّجةٌ في المحلّة الكبرى، والتوقُ إلى نقابةٍ مستقلّةٍ يغشى العاملين في التربية والتعليم والبريد. ومن ثم، فإنّ على مَن يرومُ تجاوزَ حالة البوار السياسيّ الممسكة بخناق مصر والمصريين أن يبذل، في تقديري، قصارى الجهد لدعم هذا البديل المستقبليّ المثاليّ.العنف الأساسيّ والثانويّ تبقى نقطةٌ أخيرة، وهي يقيني أنّ نظامَ الحكم التسلّطيّ الراهن سيستمرّ في محاولة إجهاض كلّ قنوات التغيير السلميّ في مصر. وهذا سيدفع الساحةَ السياسيّةَ المصريّة، لا محالة، إلى أشكالٍ من العنف، يبدأها ويجرّنا جميعًا إليها ذلك النظامُ، مطمئنّاً إلى تفوّقه في ميدان القهر المنظّم. فعلى مَن يروم العمل في مضمار السياسة في مصر، إذًا، ألاّ يتناسى هذا التصوّرَ المستقبلي، وأن يستعدّ له. وفي هذا الصدد، تتعيّن التفرقةُ بين العنف الأساسيّ الذي ينتهجه الحكمُ التسلّطيّ، وبين ما يستدعيه من ردّ فعلٍ عنيفٍ من الناس المناضلين من أجل حقوقهم ـ وهو ما يمكن تسميتُه "العنف الثانويّ." التجريمُ يجب أن يقع على العنف الأساسيّ، لا على ردّ الفعل الثانويّ، خاصةً عندما يسدّ نظامُ الحكم التسلطيّ قنواتِ التغيير السلميّ. يقول صلاح عبد الصبور: 'في بلدٍ تتعرّى فيه المرأةُ كي تأكل، لا يوجد مستقبل/في بلدٍ يتمدّد فيه الفقرُ في الطرقات، لا يوجد مستقبل/يا أهلَ مدينتنا، انفجروا أو موتوا.. رعبٌ أكبرُ من هذا سوف يجيء | |
|