ليس المستغرب أن يجد حسني مبارك في صفوف الشعب المصري بعض الحزن لمشهده في قفص الاتهام في المحكمة. فالرأي العام والنفسية العامة في بلادنا العربية ليسا انتقاميين ، ولا دمويين ، من حيث الأساس بل يميلان إلى العفو عند المقدرة ، أو يفضلان العفو على القصاص ، كما يعلم القرآن.
ولهذا فالمدهش أو الأكثر مدعاة للاستغراب هو شبه الإجماع الذي استقبل الرأي العام والنفسية العامة في مصر والبلاد العربية المشهد بدرجة عالية من الرضا والارتياح ، واعتبار حسني مبارك مستحقا له ، ويجب أن يدفع ثمن سياساته وأفعاله ليس بسبب ما حملته لائحة الاتهام من فساد وجرائم قتل فحسب ، وإنما أيضا لما لم تتطرق إليه تلك اللائحة وهو الأكثر أهمية وإلحاحا.
هذا الانقلاب في موقف الرأي العام والنفسية العامة يدل على مدى الوعي الشعبي بما وصلته سياسات حسني مبارك من جرائم وانحطاط وتفريط مما غلب ضرورة القصاص على العفو ، أو مراعاة بعض الاعتبارات في مثل هذه الحالة والتي عبرت عنها تلك القلة التي حزنت لمشهد حسني مبارك ذليلا في المحكمة ، من دون أن يكون موقفها تأييدا له أو قبولا بما ارتكب من جرائم الفساد وقتل الأبرياء أو من تفريط خطر في القضية الفلسطينية. وقد وصل إلى حد التواطؤ مع الكيان الصهيوني في حرب العدوان على لبنان عام 2006 أو حرب العدوان على قطاع غزة 2008 / 2009. ويأتي المشاركة في حصار قطاع غزة ليكون ثالثة الأثافي.
الموقف من حسني مبارك من قبل الرأي العام المصري والعربي في السنوات العشر الأخيرة وصل إلى مستوى شديد من الاشمئزاز والغضب ، وقد عبرت ثورة 25 يناير عن ذلك بأعلى درجات الوضوح كما عبر التعاطف الشعبي العربي من المحيط إلى الخليج معها (ثورة 25 يناير) بالوضوح نفسه كذلك.
التهم الموجهة إلى حسني مبارك ، بالرغم من أهميتها ، أقل أهمية من التهم التي كان يجب أن تكون في المقدمة ، فالفساد مثلا سمة مشتركة بينه وبين الكثيرين من الحكام وأصحاب النفوذ. وكذلك الأمر بإطلاق النار على المتظاهرين أو الأمر بالتعذيب من السمات المشتركة كذلك ، فضلا عن كونه سياسة وتابعا للسياسة.
إن التفريط بالأمن القومي ومستوى الارتهان لأمريكا وجر عدد من الدول العربية إلى ذينك التفريط والارتهان ، سياسيا واقتصاديا لأمريكا والكيان الصهيوني هو الأفدح من حيث الاستحقاق إلى إدخاله في قفص الاتهام وإنزال القصاص به فقد كان واحدا من اثنين في فرض قرار (مبادرة السلام العربية) التي كانت مبادرة سعودية.
حسني مبارك يتحمل مسؤولية في حصار ياسر عرفات ، ورفع الغطاء عنه ومن ثم السماح لشارون باغتياله ، وقد كان وراء محمود عباس ومحمد دحلان في اعتباره (منتهي الصلاحية).
حسني مبارك يتحمل مسؤولية كبيرة في تقسيم السودان ، وفي عدم التصدي العربي للعدوان الأمريكي على العراق واحتلاله.
وحسني مبارك مسؤول عن التجاوب مع المحافظين الجدد في عهد جورج دبليو بوش في أغلب سياسياتهم الشرق أوسطية.
وحسني مبارك مسؤول عن هزال موقف الجامعة العربية من حرب تموز / آب 2006 على لبنان. والأخطر ما ظهر من تواطؤ مع العدوان على قطاع غزة. وذلك بإعطائه التسويغ للحرب والعدوان الصهيوني في الحالتين بحجة أعمال المقاومة أو أسر جنود إسرائيليين ، وقد وصل موقف في دعم العدوان على قطاع غزة إلى منع قمة عربية ضد العدوان وإلى الضغط الهائل على حماس للاستسلام للشروط الصهيونية لوقف العدوان.
حسني مبارك غطى كل التنازلات والسياسات التي اتبعتها سلطة رام الله في أثناء الانقسام بما في ذلك الاتفاق الأمني الذي أشرف عليه دايتون.
طبعا ثمة قضايا أخرى ومواقف أخرى في الاتجاه نفسه ؛ ما أوصل الوضع العربي إلى حضيض لم يسبق له مثيل من حيث الارتهان لأمريكا والتفريط في القضية الفلسطينية وعدد هام من القضايا المصيرية ، وقد أصبح الصوت عاليا على كل لسان في السنوات الأخيرة صارخا أين مصر؟ أين دور مصر؟
أما التهم الأبلغ التي كان يجب أن توجه إليه من الناحيتين الاقتصادية والمالية فتلك المتعلقة بسياسات تنفيذ الأجندة الأمريكية وأجندة البنك الدولي وصندوق النقد الدولي والانخراط التبعي في العولمة. ذلك لأن الفساد هو ناتج عن تلك السياسات ولا سيما المتعلق بالصفقات التي تمت مع الشركات متعددة الجنسية.
فالجريمة هنا تتمثل في النظام الاقتصادي الذي دمر القطاع العام وترك مصر مستباحة لنظام العولمة. ومن ثم مستباحة للفاسدين الدوليين والمحليين ولهذا فالتهم المتعلقة ببيع الأراضي أو تسهيل الحصول عليها أي التي تركز عليها المحكمة لا تمثل إلا الحد الأدنى مما يجب أن يوجه لحسني مبارك.
ومع ذلك فإن محاكمته الراهنة في نظر الشعب ، حق وضرورة ، والأمل أن تفتح الملفات الأخرى ، وأن تستعاد أموال الفساد المرحلة إلى أمريكا وأوروبا ودول أخرى.